Skip to main content

التحقق من رواية الرابط العرقي في الفكر الصهيوني

4

د. ضرغام غانم فارس

 ملخص

 الفِكر الصهيوني ليس طفرة حدثت عام 1897م، وإنما هو امتداد وتوظيف لروايات العهد القديم من الكتاب المقدس، وتكامل وانسجام مع الفكر البروتستانتي، وانخراط في مشاريع الدول الكبرى الطامعة بالسيطرة على منطقة الشرق الأوسط. ونظرًا لارتباط الوعد الرباني التوراتي بالرابط العرقي (نسل ابراهيم واسحق ويعقوب) كان لا بدَّ للحركة الصهيونية من اختلاق رابط عرقي يجمع اليهود في مختلف أنحاء العالم بتلك السلالة، وكان ذلك من خلال رواية يوسيفوس حول نفي الرومان لليهود. لكن أثبتت الدراسات التاريخية والآثارية بطلان هذا الرابط، بدايةً منذ ظهور الديانة اليهودية، حيث تبيَّن أن ظهورها كان تطورًا محليًا متعدد الأعراق وليس عرقًا دخيلًا قادمًا من العراق (إبراهيم)، وتبيَّن بطلان رواية نفي اليهود على يد الرومان، وأن انتشار الديانة اليهودية في مختلف أنحاء العالم لم يرتبط بعرق واحد وإنما بعدة أعراق وخير دليل على ذلك اعتناق مملكتي حِمْيَر والخزر للديانة اليهودية. الشعب الفلسطيني هو مجموع السكان الأصليين أصحاب الأرض والتاريخ منذ العصور الحجرية، والذي اختلط بعدة شعوب وأعراق وحضارات على مر العصور، وهو الشعب الوثني الذي اعتنق الديانات السماوية الثلاث. وبداية تاريخ الشعب الفلسطيني هي بداية تاريخ الإنسان على أرض فلسطين. الكلمات الدالة: فلسطين، الرومان، الصهيونية، حِمْيَر، الخَزَرْ.

 ABSTRACT 

The Zionist ideology is not a boom that occurred in 1897, but rather an extension and employment of the Old Testament narratives and an Integration with the protestant thought. It was also a kind of involvement in the domination of the great countries in the Middle East. Given the link between the biblical divine promise and ethnicity ( the descendants of Abraham, Isaac, and Jacob), the Zionist movement had to create an ethnic bond that unites Jews around the world with that lineage, and that was through Josephus’s narrative of the Romans’ exile of the Jews, which was used to serve and expand this thought. 

However, this bond has been proven false by historical and archaeological researches. Because firstly, since the emergence of the Jewish religion, it was about a local development of multi-ethnic races rather than one intruding race, belonging and coming from Iraq (Abraham). Secondly, we have to consider also that the version about the roman exile of the Jewish people is neither valid nor accurate. In fact, and according to historical and archaeological studies, the Jewish religion's expansion was not related to one ethnic race but to numerous races. The proof we have is when Himyar and Khazaria kingdoms converted to the Jewish religion. Hence, the Palestinian people are the native residents and the owners of the land and history since the Stone Age. Whereas, People of Palestine integrated afterward with many people, races, and civilizations along the ages. Therefore, we assure that Palestinians are the pagan people who converted to the three monotheistic religions. Moreover, the beginning of Palestinian People's history is the beginning of human being history in the land of Palestine. KEYWORDS: Palestine, Roman, Zionism, Himyar, Khazaria.

 مقدمة

 يرتكز الفكر الصهيوني على قاعدتين أساسيَّتين، الأولى توراتية وتتضمن وعداً ربانياً بامتلاك أرض كنعان (فلسطين)، وقد تم إخراج هذه النصوص الدينية من سياقها الديني وتم توظيفها لإضفاء نوع من الشرعية الدينية على احتلال فلسطين، أما القاعدة الثانية فهي روائية يتحدث عن إخراج قسري لليهود من فلسطين على يد الرومان، وتم توظيف وترويج تلك الرواية بهدف اختلاق رابط عرقي وتاريخي لليهود في مختلف أنحاء العالم بفلسطين. يُشَكِّل الرابط العرقي في الفكر الصهيوني، الركيزة الأساسية للمشروع الصهيوني العنصري، وهو الحلقة المركزية التي تربط ما بين التاريخ المُفترض والحاضر، وما بينَ المعتقدات الدينية والأهداف السياسة الصهيونية. فهو موضوع واسع لا يمكن الإحاطة بجميع تفاصيله من خلال هذا البحث، ولهذا اكتفيت بتناول الخطوط العريضة والنقاط المحورية التي تحقق الهدف من هذا البحث، وهو التحقق من رواية الرابط العرقي ليهود العالم بفلسطين، ووضع التوراة في سياقها الديني والتاريخي الصحيح، وتقديم دراسة علمية محايدة تساهم في القضاء على الخلط السائد ما بين الروايات التوراتية والرواية الصهيونية والحقائق التاريخية، وتفتح الآفاق أمام المزيد من البحوث حول هذه المواضيع.

 فالحركة الصهيونية عندما أُسست عام 1897م بهدف إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، لم يَكُن فِكرها طَفْرَة ظهرت في ذلك التاريخ، وإنما هو امتداد وتوظيف لروايات العهد القديم( ) التي دُوِّنت في القرن السادس قبل الميلاد، وهي تكامل وانسجام مع الفكر البروتستانتي( ) الذي بدأ منذ القرن الخامس عشر الميلادي، والذي نتج عنه إحياء روايات العهد القديم من الكتاب المقدس من خلال ترجمة الكتاب المقدس من اللاتينية إلى اللغة الإنجليزية( ) وإلى اللغات المحلية في أوروبا( )، والاعتقاد بأن مجيء المسيح مرهون بعودة اليهود إلى فلسطين( )، مما أدى إلى ظهور أصوات مسيحية تطالب بعودة اليهود إلى فلسطين قبل ظهور الحركة الصهيونية( ). والصهيونية هي انخراط في مشاريع الدول الكبرى الطامعة بالسيطرة على منطقة الشرق الأوسط بصفتهِ مشروعًا يصدِّر المسألة اليهودية( ) ويراعي مصالح تلك الدول في المنطقة( ).

 أهمية الرابط العرقي في الفكر الصهيوني 

يرتكز الفكر الصهيوني على التبني التام والحرفي لروايات العهد القديم من الكتاب المقدس. لكن هذا التبني غير كافٍ لتحفيز وإقناع يهود العالم بأن احتلال فلسطين هو تنفيذ لإرادة إلهية، وغير كافٍ أيضا لإقناع المحافظين البروتستانت( ) بأن دعم المشروع الصهيوني هو واجب مقدس. لأن الوعد الرباني لإبراهيم وإسحق ويعقوب بحسب النصوص التوراتية هو وعد لأولئك الآباء ولنسلهم( )، أي أنه وعد قائم على الرابط العرقي وليس على الرابط الديني، كما أن العودة إلى أرض كنعان في الوصف التوراتي كان يسبقها خروج للسلالة الموعودة بامتلاك أرض كنعان، وتمثل ذلك بخروج يعقوب وأبنائه من أرض كنعان إلى مصر ثم السبي البابلي لبني إسرائيل وإخراجهم من أرض كنعان. وبهذا فإن تلك النصوص التوراتية لا تعني شيئاً بالنسبة إلى الحركة الصهيونية إذا لم يكن هناك خروج سابق يتم من خلاله اختلاق رابط عرقي يربط جميع اليهود في مختلف أنحاء العالم بنسل يعقوب تحديداً، والذي هو نفسه إسرائيل بحسب النص التوراتي( ).

التوراتي( ونظراً لأهمية الرابط العرقي بصفته أساسًا ترتكز عليه الرواية الصهيونية، نجد تيودور هرتزل (Theodor Herzl) في كتابه الدولة اليهودية (A Jewish State) الذي نشره عام 1896م والذي يعرض فيه المسألة اليهودية والضائقة التي يعيشونها في جميع البلدان( )، يقول في إطار زَعْم الرابط العرقي: ... إن فلسطين تبقى وطننا التاريخي المحفور في ذاكرتنا للأبد، وإن إقامة وطن لليهود هو الحل المناسب للمسألة اليهودية وينهي معاناة اليهود الممتدة منذ القرن الأول الميلادي...( ).

 ونظراً لمحورية الخروج القسري (النفي) في خلق رابط عرقي يضاف إلى الرابط الديني لإضفاء نوع من الشرعية الدينية للاحتلال، فقد دُوِّن هذا الرابط العرقي في بداية وثيقة إعلان قيام دولة إسرائيل( )، ومما جاء في الوثيقة: "نشأ الشعب اليهودي في أرض إسرائيل، وفيها صيغت شخصيته الروحانية والدينية والسياسية، وفيها عاش حياة مستقلة في دولة ذات سيادة، وفيها أنتج ثرواته الثقافية الوطنية والإنسانية العامة وأورث العالم أجمع سفر الأسفار الخالد. وعندما أُجلي الشعب اليهودي عن بلاده بالقوة، حافظ على عهده لها وهو في بلدان شتاته كلها، ولم ينقطع عن الصلاة والتعلق بأمل العودة إلى بلاده واستئناف حريته السياسية فيها. وبدافع هذه الصلة التاريخية والتقليدية نزع اليهود في كل عصر إلى العودة إلى وطنهم القديم والاستيطان فيه..."( ). 

ومن ناحية أخرى فإن هذا الرابط العرقي المزعوم هو سلاح مهم، استطاعت من خلاله الحركة الصهيونية العنصرية لعب دور ضحية العنصرية العرقية. فرغم عدم وجود أصل علمي لنظرية نفي اليهود على يد الرومان، إلا أن محاولات ربط يهود العالم عرقياً بإبراهيم وبالوعد الرباني التوراتي بقيت مستمرة وكأن هذا الربط المُفترض حقيقة مُسلَّم بها. كما شكَّل اختلاق الرابط العرقي ليهود العالم بفلسطين، مدخلاً لإظهار اليهود في مختلِف أنحاء العالم على أنهم أقليات عرقية، وذلك بالاستناد إلى التقسيم التوراتي الخرافي للأصول العرقية لشعوب العالم (سام وحام ويافث )، وأن اليهود ساميين (من نسل سام بن نوح)، وبهذا يكون اليهود هم العرق السامي في أوروبا وَفقاً للتقسيمات التوراتية، ومعاداتهم تعني معاداة العِرق السامي. وعلى قاعدة هذا التقسيم التوراتي ظهر مصطلح اللاسامية في أوروبا والذي يعني معاداة السامية، وهو مصطلح ابتكره عالم اللاهوت النمساوي شلوتزر عام 1781م ثم الصحافي الألماني ويلهلم مار عام 1879م، بعد ذلك أخذ المصطلح دلالة سياسية عام 1860م على يد يهودي من بوهيميا واسمه موريس شنايدر( ). ومن خلال مصطلح اللاسامية ما زالت الحركة الصهيونية تلعب دور ضحية العنصرية العرقية، وتعتبر أي نقد يوجه لها أو لليهود -بصفتهم أفرادًا أو جماعات- هو عنصرية عرقية. 

مصدر الاعتقاد بطرد اليهود من فلسطين على يد الرومان يُرجع هرتزل تاريخ معاناة اليهود إلى القرن الأول الميلادي وليس إلى القرن الثاني عشر الميلادي، رغم أنه كان يبحث عن حل للمسألة اليهودية التي ظهرت في القرن الثاني عشر الميلادي، والسبب هو الاعتقاد السائد بأن وجود اليهود في أوروبا هو نتيجة لنفي الرومان لهم وتهجيرهم من فلسطين عام 70م. ومصدر هذا الاعتقاد هو المؤرخ اليهودي فلافيوس يوسيفوس( ) (Flavius Josephus)، وهو كاهن يهودي ولد في القدس عام 37 م لإحدى عائلات النخبة الدينية اليهودية من الفريسيين( )، وكان من قادة الثورة الكبرى التي اندلعت ضد الرومان عام 66 م، ولكنه هُزم في الجليل وسلم نفسه للرومان، ثم شَهِد عام 70 م سقوط القدس بيد الرومان وإحراق المعبد، بعد ذلك أطلق تيتوس (Titus) سراحه، ثم أصبح مواطناً رومانياً وأكمل حياته في روما وكتب مؤلفاته التاريخية( )، التي تتسم بالتناقض والتفاخر والمبالغة والكذب( ).

 المصدر الأوحد لرواية طرد اليهود من فلسطين على يد الرومان هو يوسيفوس، وكل ما نشاهده من مراجع ذكرت هذا الموضوع تكون قد نقلت عن يوسيفوس أو نقلت عن ناقل عن يوسيفوس، لكن الحركة الصهيونية تلقَّفت ما كتبه يوسيفوس وما كتبه الناقلون عنه، ووظفت تلك الرواية لاختلاق رابط عرقي وخدمة مشروعها العنصري. فما مدى الثقة بهذا المصدر وماذا يقول علم الآثار؟ 

نقد المصدر الذي ارتكزت عليه الحركة الصهيونية (يوسيفوس) 

كتب يوسيفوس مؤلفاته في روما، وكان يستهدف بكتاباته مواطني الإمبراطورية الرومانية الوثنيين والذين يزدرون الديانة اليهودية، وهذا ما جعله حريصاً على أن تترك كتاباته تأثيراً إيجابيًا واحترامًا للديانة اليهودية ولأتباعها، رغم أن اليهود من وجهة نظر قرَّائه الرومان تجرأوا وثاروا على روما وحاولوا أن يمَسُّوا عَظَمَتها. ولهذا عمد إلى إعادة صياغة الأحداث وإدخال التعديلات اللازمة في رواياته بما يخدم أهدافه على حساب الحقائق التاريخية. ويعدُّ يوسيفوس من أكثر المؤرخين القدماء غموضاً، فهو اليهودي والكاهن والباحث، وهو القائد في الثورة على روما، وهو الخائن والمواطن الروماني والمؤلف في روما وتحت رعاية الإمبراطورية( ). لكن في النهاية لم يكن يوسيفوس مؤرخاً بمفهومنا الحديث للمؤرخ وللباحث العلمي، وإنما كان رجل دين يهوديًّا من الفريسيين، دوَّن ما يتماشى مع ميوله ومعتقداته وأهدافه، فبالغ في وصف الأحداث والإحصائيات واختلق أحداثا من نسج خياله، وذلك في إطار واجبه لكسب تعاطف غير اليهود