تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

المكتبة الوطنية حاضنة الموروث والهوية والذاكرة

1

بقلم فواز سلامه 

فلسطين مهد الحضارات والديانات ، فقد تعاقب عليها العديد من الحضارات الكنعانية، والآشورية، والبابلية، والفارسية،والرومانية،والبيزنطية، والعثمانية ، فكانت مسرحاً للحضارات ،وتميزت بالموقع وملتقى الاتصال والتواصل، كل ذلك ميزها بثروة وطنية تزخر بتراث ثري ومتنوع ومتراكم ،وتكتنز رصيداً ثقافياً  ومخزوناً حضارياً وتاريخياً متجذر في عمق التاريخ يحمل بين طيات عصوره مسيرة حياة شعب في كافة مجالات الحياة ، وعلى مدار الحقب التاريخية، تعرض موروثنا التاريخي الى التشتت والترحيل والنهب والسرقة والتزييف وطمس معالمه وتغريب هويته وتهويده، اضافة الى المشاريع والمبادرات والاتفاقيات التطبيعية بهدف غسل أدمغة الشعوب وتسويق واحلال الرواية الصهيونية الكاذبة لتكون بديلاً عن روايتنا التاريخية الأصيلة بحقيقة وجودها وليس وهماً افتراضياً مصطنعاً. لهذا كان الانسان والأرض الهدف الاستراتيجي للاحتلال الاسرائيلي .

 

ان موروثنا بكافة مكوناته ومرتكزاته، كان وما زال شاهداً على حقنا القانوني والتاريخي في الوجود، وعزز قدرة الصمود الاسطوري للشعب الفلسطيني بايمانه بأنه الامتداد الطبيعي للسلف ، وهذا يقودنا للقول بأن أي قصيدة على غير قافيتها نشاز .

 

يعد الموروث الثقافي والحضاري والتاريخي بأنواعه وأشكاله المختلفة لأي بلد تعبيراً جلياً لهويته الوطنية والانسانية، ومكوناً اساسياً لشخصيته، اضافة الى كونه أهم المصادر الأولية للمعلومات ومرجعاً أساسياً يرتشفون منه الدارسين والباحثين والمؤرخين والأجيال القادمة ، اذا ما أُحسن حفظه وتنظيمه وتسييره ،لنقله تفاصيل الأحداث التاريخية والنشاط الانساني في كافة المجالات الحياتية بزمانه ومكانه وأشخاصه، وان مهمة الحفاظ على الموروث تبدأ بالمثل الشعبي الذي توارثناه عن أجدادنا (من فات قديمه تاه)، ومسؤوليتنا في الحفاظ عليه تبدأ بسؤال كيف تجعل الماضي يحاور الحاضر عن المستقبل ؟ ،فمهام حفظ الموروث كبيرة وضخمة ووطنية ،والمسؤولية جماعية تشاركية ، تبدأ بالمسؤولية الفردية والمجتمعية والمؤسساتية رسمية وغير رسمية .

 

وبكل تواضع وفخر كان لنا شخصياً الاهتمام والعمل الدؤوب من خلال مسؤولياتنا بصفتي الوظيفية كمسؤول للأرشيف الوطني الفلسطيني واختصاصنا، وعلى مدار الحكومات الفلسطينية المتعاقبة، واللجان الوزارية والندوات والمؤتمرات واللقاءات الاعلامية ، قدمنا العديد من الرؤى والمقترحات والتصورات والآليات للحفاظ على موروثنا وابراز أهميته وتجميعه وحفظه وصيانته وترميمه ومساهمتنا في الاستراتيجية العربية لاستعادة الأرشيفات العربية المنهوبة والمسروقة والمرحلة ، لايماننا وقناعتنا بأنه جزء مهم في صراعنا مع المحتل بسبب ما ينتهجه من سياسات  تدميرية على أرض الواقع  ما قبل النكبة والنكسة الى يومنا هذا ،  ومن خلال ما قدمناه للحكومة  بخصوص ذلك من  مقترحات لمشروع حوكمة المؤسسات ، الى أن صدر المرسوم الرئاسي رقم(6) لسنة 2019 بشأن انشاء المكتبة الوطنية الفلسطينية ، وتعيين الدكتور ايهاب بسيسو رئيساً للمكتبة الوطنية ، ومن ثم صدور القرار رقم (51) لسنة 2021 بشأن تعيين السيد عيسى قراقع رئيساً للمكتبة الوطنية ، ومصادقة  مجلس الوزراء بشكل أولي بضم الأرشيف الوطني  الفلسطيني للمكتبة الوطنية وذلك لتشابه وتقاطع الاختصاص والمهام والوظيفة لتكون مؤسسة واحدة .مما يسهم في اسناد هذا المشروع الهام لها .

 

ان مهمة المكتبة الوطنية والأرشيف الوطني ضخمة وكبيرة بوصفها الحاضنة لكل الموروث الوطني بمختلف اشكاله المخطوط والمطبوع والمرئي والمسموع من خلال حصره وجمعه او ايداعه وحفظه ونشره، الا أن الارادة من كل المهتمين والدعم الرسمي لهذا المشروع من سيادة الرئيس والحكومة  بالاضافة الى ما قدمه رئيس المكتبة الوطنية الفلسطينية في الندوة التي انعقدت في الايام القليلة الماضية بخصوص ما تم انجازه في ارساء البنية التحتية للمكتبة  الوطنية مدعاةً للتفاؤل بالانطلاق نحو بناء استراتيجية شاملة وتشاركية وقابلة للتنفيذ بالتعاون والتنسيق مع كافة المؤسسات ، نعلم جميعاً بأن حال موروثنا كما هو حال شتاتنا، ونجزم بأنه لا تكاد دولة في العالم تخلو من موروثنا في دور أرشيفاتها ومكتباتها الوطنية بأشكال وبلغات مختلفة .

 

أن تبدأ متأخر خيراً من ألا تبدأ، وفي ظل ظرفنا الاستثنائي والخطر المحدق والذي يستهدف بشكل واضح طول الوقت كل مكونات وركائز وجودنا التاريخي على أرضنا ، يتطلب منا أن نبدأ من حيث انتهى الآخرون ، وضرورة استغلال وتوظيف التكنولوجيا الحديثة والتحول الرقمي من تجهيزات وبرمجيات ونظم اتصالات في عمليات حصر وجمع وترحيل ونقل الموروث التاريخي أينما كان ،وبضمان حمايته  ، فالتطور التكنولوجي بدد كل المخاوف من سطوة الاحتلال عليه ، وهناك ايضاً الكثير من المعززات لانجاح هذا المشروع الوطني وتحتاج الى دور تكاملي وتعاون فاعل من قبل المؤسسات الرسمية وغير الرسمية ،بالاضافة الى دور الاعلام الوطني المساند بالتعريف بالموروث وأهميته والوعي بالحفاظ عليه من التسريب والمتاجرة والتصدي للجهل بقيمة موروثنا التاريخي والثقافي ،فهي مهمة وطنية بامتياز ومهمة انسانية تحتاج الى تظافر الجهود الوطنية أينما وجدت ،والتعاون العربي والدولي في استعادة تاريخنا وحضارتنا بكافة اللغات ، وهذا الحق تكفله كل المواثيق والاتفاقيات الدولية ، كما وأن المساهمة في نجاح هذا المشروع لا تقل أهمية عن كافة أشكال النضال والانتماء الوطني ، آملين أن يزهر الأمل كما نتمنى ، لنضع بين يدي الأجيال القادمة تاريخنا وحضارتنا .