بقلم : فواز سلامه
تحتفل فلسطين في السابع من اكتوبر من كل عام بيوم التراث الفلسطيني ،والذي اقره مجلس الوزراء الفلسطيني في 14/أيار 1999 ،ويتم من خلاله تنظيم العديد من الفعاليات والأنشطة لاحياء التراث بهدف الحفاظ عليه وحمايته من النسيان والضياع ،وليبقى حاضراً في ذاكرة الأجيال ،وكونه جزء أصيل من المخزون التاريخي لشعبنا وشهادة تثبت بأننا أصحاب الأرض والتاريخ ، يطلق لفظ التراث على مجموعة نتاج الشعوب والحضارات السابقة والتي يتم وراثتها من السلف الى الخلف ،وهي ايضاً نتاج تجارب الانسان ورغباته واحاسيسه سواء كانت في مجالات العلم أو الفكر أو اللغة أو الأدب ،ويمتد ليشمل النواحي المادية والوجدانية وفلسفه ودين وفن وعمران وفلكلور ... ، واصبحت كلمة التراث الأكثر شيوعاً للدلالة على الماضي وتاريخ الأمة وحضارتها ،وهو البصمة التي أعطت للحضارات شخصيتها التي نستطيع من خلالها أن نميز محطات التاريخ المختلفة من تقدم وتنوع في كافة المجالات .
فلسطين حضارة ضاربة جذورها في عمق التاريخ ،فهي أرض الحضارات ،ومهد الديانات،ومهبط الرسالات ،تميزت بالموقع والموضع ،وملتقى الاتصال والتواصل ،تعاقبت عليها الحضارات ،وأمتها الجماعات البشرية المختلفة وكل ذلك ميزها وخصها بعظم وقدسية المكان ،وسر خلودها وأستمرارها لآلاف السنين برغم كل ما أحل بها من حروب ونكبات الا انها بقيت راسخة بتراثها وموروثها والذي يعتبر ثروة ضخمة متميزة بكل مكوناتها ، بالنسبة لنا كفلسطينين ،فان أهمية الحفاظ على تراثنا له أهمية قصوى حيث أنها لا تقتصر على حفظ التراث وضمان استمراريته من جيل الى جيل كما تفعل باقي الشعوب ،بل تتعدى ذلك بكثير لأننا نواجه تحديات وجودية تحاول قلعنا وقلع جذورنا من الأرض وتغريبنا عن تراثنا العربي الأصيل ، هذه التحديات مستمرة منذ زمن ما قبل انشاء الكيان الصهيوني على أرض فلسطين في العام 1948، وجسد هذا المخطط ما قاله هرتسل في كلمته أمام مؤتمر بال في سويسرا عام 1879" اننا هنا لنضع حجر الأساس في بناء البيت الذي سوف يؤوي الأمة اليهودية " ، وتشكل هذه المقولة أساس وجوهر الأستهداف المنظم للانسان الفلسطيني بغرض تفريغ الذاكرة الجمعية الفلسطينية من مخزونها الثقافي والتراثي والديني والفكري ،وحسب فهمهم فان هذا يحتاج الى كتابة ذاكرة جديدة ،لكن غاب عن ذاكرتهم امور هامه وهي الهوية الثقافية ومدى امكانية ربطها بما هو موجود على الأرض ،وتركيبتهم الاجتماعية الجديدة التي تحوي مزيجاً من ثقافات متعددة الأصول ،وغاب عن ذاكرتهم هذا الفلسطيني المتجذر بتاريخه الطويل صاحب الأرض والحق الذي يقدم حياته رخيصة من اجل أن يتوشح بكوفيته .
ان شواهد الانتهاكات الاسرائيلية اليومية ليس صدفة،بل هي سياسة ممنهجة ومدروسة، فتقوم بالسرقة والنهب والتزوير والهدم والحفر والتجريف والسيطرة على المواقع الأثرية وتسجيلها ،محاولة بذلك صنع روايةً كاذبةً تروجها للعالم لتثبت حقها في الوجود ،بينما كل زاوية وحجر ونقش يشير الى أصحابه وأهله الأصليين وتدل على عمقنا التاريخي في هذه الأرض ، و ان سرقة الأرض والمقدرات باتت واقعاً من قبل احتلال يفتقر لأبسط معاني الانسانية والعدل والأخلاق والمصداقية ،لكن الجديد القديم الذي يجهله أو بتجاهلوه الكثيرون من العرب ودول العالم من هدف سياسات الاحتلال من سرقة تاريخ شعب بكل ما تعنيه الكلمة من معنى وينتحل وبشكل رسمي هذا التراث ويظهره للعالم على أنه تراث اسرائيلي أصيل،فهم أيضاً لا يجدون في معظم الأحيان طرفاً آخر ليدحض هذه الادعاءات الباطلة .
ان معركة النضال والبقاء للشعب الفلسطيني كانت وما زالت وستبقى ملتزمة بالحفاظ على طابعها الثقافي والحضاري ومؤمنة بأن هذا التراث يشكل العمود الفقري ومكون أساس من مكونات الهوية الوطنية، ومرتبط بجذوره المتأصلة بالأرض والتاريخ وسيبقى شاهداً على حقه الشرعي في أرضه وبلاده ،و ان النضال على هذا المستوى لا يقل أهمية عن أي شكل من أشكال النضال ،فقد شارك الشعب الفلسطيني بكل اطيافه وفئاته رجالاً وأطفالاً وكبار السن في الحفاظ على هذا التراث ،وكان الجانب المهم للمرأة الفلسطينية في الحفاظ على موروثنا وتراثنا والحفاظ على استمراريته وتسويقه ،كما لعب أسرانا البواسل دوراً هاماً من داخل السجون بأبسط الأدوات للحفاظ عليه. أيضاً ادرك المثقف والكاتب والمؤرخ المعركة التي يخوضها الاحتلال ضد تراثنا فجمع وكتب ووثق بوسائل متعددة، مدرك الجميع أهمية المحافظة على هذا التراث المستهدف بالطمس والتزوير وليصل للأجيال جيلاً بعد جيل ، ولم تغفل المؤسسات الرسمية وغير الرسمية ومؤسسات المجتمع المدني دورها الهام في الحفاظ على تراثنا وان كان الجهد مشتت وغير متكامل وغير منظم الا اننا أمامنا الكثير من العمل بجهد وطني موحد يتبلور من خلال خطة استراتيجية وطنية متكاملة المحددات والاحتياجات تلازمها خطة تنفيذية قابلة للتوظيف مترامية الاطراف على المستوى الفلسطيني مسلمين ومسيحين وعرب ودول صديقة لتنصب كل الجهود في كل الاتجاهات لمحاربة ومواجهة وفضح السياسات الاسرائيلية بوسائل ولغات عديدة من توعية وارشاد ودور اعلامي فاعل، ودور قانوني مستند للقانون الدولي ،وتكثيف الجهود على المستوى الدبلوماسي باقامة الأنشطة والفعاليات،بالاضافة الى دور المؤسسات الوطنية بعملها الفني والتقني من توثيق وترميم .... نعم نحتاج الى جهود كبيره لكنها ليست بالصعبة اذا تم توظيف الجهود والعمل المتكامل، لنرتقي لمستوى الحدث في مواجهة الرواية الصهيونية الكاذبة التي تروج عبر المؤسسات الاعلامية الصهيونية في كل دول العالم ،بالاضافة الى جاهزيتها للعمل حالياً على مستوى الدول المطبعة ضمن اتفاقيات ابراهام التطبيعية والتي أصبحت خنجرأً مسموماً في ظهر كل فلسطيني وكل حر من امتنا العربية والاسلامية ولكل من يؤمن بحقنا التاريخي، ان تركيز دولة الاحتلال على التطبيع الثقافي لهو أخطر سلاح على عقول الاجيال من أمتنا العربية والاسلامية والتي تستطيع من خلالها تمرير المخططات الصهيونية .
ان تراثنا بأنواعه ومضموناته المختلفة من تراث ديني وطبيعي وثقافي ولغوي وحضاري وبشكله المادي وغير المادي باقٍ ويسكن في أعماقنا فهو ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا ، " تسقط الأجساد ... لا الفكرة" قالها ذات يوم المفكر المناضل غسان كنفاني ، وما زالت الفكرة تعيش وتنتقل من جيل لآخر .