تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

سبارتاكوس الفلسطيني

1

بقلم عيسى قراقع

من مشاركة المكتبة الوطنيّة الفلسطينيّة في حفل إطلاق كتاب الأسير الكاتب خليل أبو عرام في الخليل، حيث قدّم رئيس المكتبة الوطنيّة عيسى قراقع قراءته للكتاب الّذي جاء في جزئين أوّل وثانٍ، ممّا ورد في هذه القراءة الّتي جاءت بعنوان: "سبارتاكوس الفلسطيني"؛ بقلم عيسى قراقع الكاتب الأسير خليل أبو عرام في كتابه القديس والخطيئة يتحرر من خلف مؤبداته القاسيات، يخرج من المعبد، يحمل صليبه وفأسه ويهدم الأصنام، يحاسبنا واحداً واحداً في المسافة المتبقية بين الجنة والجحيم، فالضحايا تصارع الضحايا، يمتصهم الواقع القمعي ويحولهم إلى مختلفين وحيارى، وفي كتابه النقدي الجريء يتحدث عن مفهوم أعمق وأوسع للسجن ويكشف أن الجدران والأسلاك والأبواب الموصدة والقمع والطمس والعزل والإرهاب الصهيوني ليست هي العائق أمام إرادة الحرية، وإنما ما زرعه الاحتلال في إسمنت السجن وهوائه ونظامه اليومي ما هو أقسى من السجن وأشد: نظاماً مبرمجاً يطوق الروح ويحاصر العقل ويجعل من كل أسير مجرد شيء أو آلة.

 يتحدث خليل في كتابه كيف أطلق السجان في فضاء السجن كل قواه غير المرئية والناعمة بأساليب شتى كنشر الفساد والشللية والنوازع المصلحية والاستزلام، وبنى بذلك سجناً آخر في داخل السجن، مملكة تسيطر عليها مفاهيم الفردية والشخصانية والمنفعية والنرجسية، صار السجن الضيق يضيق أكثر على ساكنيه، وصار السجن الضيق حبل مقصلة لمفاهيم الثورة وقيمها تعدم الذات الداخلية للمعتقلين وكل تلك المعاني التي تسطرها التضحية وأبجدية الهوية. الأسير خليل أبو عرام ضحية الاحتلال الصهيوني يرفض أن يتحول إلى ضحية أخرى على يد أصحاب الخطايا الآثمين وهؤلاء الشياطين الذين دنسوا مفهوم الحرية ورمزية الأسير بتعاونهم مع ضباط استخبارات السجون، هؤلاء الآثمين تحولوا إلى رجال كابو لتدنيس مشروع التحرر الوطني الذي يمثله الأسرى والمعتقلون من خلال أدوارهم التي يقومون بها نيابة عن السجان. الكاتب يسلط الضوء على السياسة الإسرائيلية التي حولت الشعب الفلسطيني إلى سجين في كانتونات ومعازل وتجمعات ضيقة وأسست نظام الفصل العنصري ونظام فرق تسد، هذا الفصل الأفقي والعمودي انتقل إلى داخل السجون حيث التجزئة والانقسام والتشظي والفوضى، يرافقه نظام تحوير مفاهيم الأسرى وأولوياتهم وانهيار نظمهم الداخلية، ونقل مجتمع الاعتقال من مجتمع مقاوم وسلطة ثورية متماسكة إلى واقع يسوده الترهل وغياب الوحدة والحياة المشتركة والتضامن الجماعي، تحويل ساحات السجون إلى ممالك وامبراطوريات ومخترات وأسواق وتجارة وخصخصة النضال وتدمير التقاليد الاعتقالية ونظمها وإعادة تشكيل وعي الأسرى ثقافياً واجتماعياً بما يخدم نظام السيطرة في السجون. 

الكاتب يوثق المتغيرات التي جرت على الحركة الأسيرة بعد عام 2004 ويحاول أن يبحث بشكل مدروس من موقع المسؤولية عن أسباب هذا التردي الذي جرى على حياة الأسرى وفقدانها لقدسيتها وسحرها، وهو محاولة لاستعادة دور الحركة الوطنية الأسيرة كجزء من المشروع الوطني والتحرري لمقاومة الاحتلال ومحاربة كل أدوات الفساد داخل السجون والتي قادت إلى الخطيئة والخطايا وأصبحت شريكة للسجان بتقنياته الجديدة بتحويل الأسرى إلى مجرد أرقام مقيدين بسلاسل أقوى من سلاسل الحديد وهي المصلحة والمال واضمحلال المطامح وتحويل الأسرى إلى مجرد مستهلكين مكتفين بما يحصلوا عليه من طعام وما يودع من حساباتهم من أموال، إنه يعلن تمرداً في نصوص هذا الكاتب على سياسة التدجين والمساومة وعلى الطابور الخامس داخل السجون.

 هذا الكتاب هو صرخة وعي في عدة اتجاهات من أجل حماية الروح النضالية للأسير الفلسطيني من محاولات إفنائها، وهو نقد موجه إلى كل الفصائل والقيادات والمسؤولين الذين لم يقوموا بدورهم ومسؤوليتهم في وضع الضوابط لكل أشكال التسيب التي أصابت جسم الحركة الأسيرة المقدس والسماح لأصحاب الخطايا أن يسودوا ويتحكموا بمصير المعتقلين في السجون. الكتاب برغم ما في مضمونه من ألم ووجع إلا أنه يحمل رسالة ثورية وتفاؤلاً بالمستقبل، الغالبية من المعتقلين أدركت المخاطر التي تهدد حياتهم لهذا أعلنوا إضراب الحرية والكرامة في نيسان 2017 بقيادة الأسير مروان البرغوثي بهدف إعادة الهيبة والمكانة للحركة الأسيرة ودورها الطليعي في مقاومة الاحتلال وإسقاط نظام الكابو داخل السجون. كتاب القديس والخطيئة يستكمل معركة الحرية والكرامة ويتحول إلى إنجيل لتلك الملحمة التي دفع الأسرى ثمناً قاسياً خلالها داخلياً وخارجياً، الكتاب يقرع الجرس مرة أخرى ويكسر الصمت ويخلع الوتد. هذا الكتاب هو هزة إنسانية ومحاكمة للجميع، فمجرد أن يكتب خليل هذا الكتاب وبهذه الجرأة وبهذا الوضوح فهو يعلن ثورة على كل الهياكل البائسة والفاسدة وعلى نظام السيطرة الجديد، يخرج من المعبد يحمل الشعلة، يفتح أبواب المعبد ويخرج النور من الظلام والحشر، هذا الكتاب ثورة في ثورة أبعد من السجن وأقرب إلى غضب الشعب.

 الأسير خليل أبو عرام في كتابه يطرح مشروعاً سياسياً واجتماعياً وثورياً نهضوياً للخروج من الهاوية وترميم كل الانكسارات والتراجعات التي أصابت القضية الفلسطينية والحركة الأسيرة، مشروع يقوده القديسون الأطهار ضد الشياطين الكثر والذين يتقنعون في أشكال ومسميات عديدة. الكاتب خليل أبو عرام يخرج من المعبد يروي فصول الخطيئة، يتمرد على خوفه المتربص، يعري عبارات الطهر التي يتشدق بها البعض، إنه سبارتاكوس الفلسطيني يقود ثورة المقهورين والمعذبين للحصول على حريتهم ضد أصحاب الممالك والاقطاعيات والمصالح التي أسستها إدارة سجون الاحتلال. قال الشاعر العربي الكبير أمل دنقل في قصيدته كلمات سبارتاكوس الأخيرة: معلقٌ أنا على مشانق الصباح وجبهتي بالموت محنية لأنني لم أحنها حية يا إخوتي الذين يعبرون في الميدان مطرقين لا تخجلوا، ولترفعوا عيونكم إليّ لانكم معلقون جانبي على مشانق قيصر فالترفعوا عيونكم إليّ لربما إذا التقت عيونكم في الموت في عينيّ يبتسم الفناء داخلي، لانكم رفعتم رأسكم مرة